شيماء عيسى :
كيف يمكن لشعب أن يتعايش مع برلمان لا يمثله ، لم ينتخب أعضاؤه ولا هم يتحدثون بلسانه ؟ ، وهل ما يمر به المصريون الآن له ما يماثله من التاريخ الحديث منذ إنشاء أول برلمان مصري في القرن التاسع عشر؟ أسئلة طرحها "محيط" على عدد من المثقفين، بين مجالات التأريخ والأدب والتحليل السياسي، وأكدوا أننا نواجه أسوأ إنتخابات برلمانية عرفتها مصر، رغم أن هذا البلد نادرا ما عرف برلمانا شعبيا يمثله طيلة القرن العشرين! دائما كانت الطبقة الإقطاعية تتحدث باسم البسطاء شكلا لا موضوعا، أما انتخابات العام الحالي الذي شهدت أوسع حالات الإعتداء على الناخبين وأصواتهم فهي التي غيرت مصر لدولة الحزب الواحد الحاكم، وبات الحديث عن الديمقراطية وتساوي الفرص أمام المواطنين لصنع القرار وكأنه مجرد مضيعة للوقت. فبرأي المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقي يعد التزوير في انتخابات 2010 هو الأفدح ، حيث ظهر أنه مصاحب بنية مبيتة ، وشوهدت فيه الرشاوى والضغوط الأمنية على أوسع نطاق ، وعلى سبيل المثال لم تنقى جداول الناخبين لنعرف من توفى منهم أو ترك محل سكنه ، كما أن كثير من المرشحين لا يسكنون بالدوائر التي يرشحون فيها حتى يتحدثون عن مشكلات الناس فيها. وبرأي الدسوقي كان يجب أن تكون الحكومة المصرية على حياد تام من العملية الإنتخابية، ويستقيل الوزير الذي يرشح نفسه لعضوية البرلمان، لا أن يكون وزيرا ونائبا في البرلمان معا ، بل يكون الأفضل استقالة الحكومة ذاتها وتشكيلها بعد الإنتخابات ، وبحيث إذا انتخب رئيس الوزراء أحدهم للوزارة تعلن خلو دائرته ليترشح غيره مكانه. برلمان الشعب
من الناحية التاريخية يشرح د. عاصم كيف أن المصريين لم يعرفوا برلمانا حقيقيا يمثلهم خلال القرن العشرين، إلا فترة وجيزة في الستينيات. وقد بدأت الحياة البرلمانية في مصر 1866 ؛ حيث كان هناك مجلس شورى النواب ، وحل محله مجلس شورى القوانين بعد الإحتلال البريطاني 1883 ، وكان أعضاؤه من صفوة المجتمع، ويتم تعيينهم بالإختيار وليس بالإنتخاب. لم يكن لهذا المجلس أي سلطة بل كان رأيه استشاريا لا غير، وكانت الحكومة تضع القانون وتعرضه فقط على هذا المجلس. في عام 1913 ظهرت الجمعية التشرعية التي ينتخب أعضاؤها، ولكنها لم تستمر سوى ستة أشهر لإندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914 وما صاحبها من صدور الأحكام العرفية . ومنذ هذا العام ظهرت فكرة الإدلاء بالصوت شفاهة، ولهذا سمي بالـ"صوت الإنتخابي" ، تقول اسم مرشحك ، ويكتبه الموظف، وأنت لا تعلم ماذا كتب ، وكان التزوير ولا يزال من هذا الوقت ، فكل صاحب مصنع أو حقل يجلب العمال عنده للتصويت . في عام 1923 بدأت حياة تشريعية حقيقية، حيث كان النواب ينتخبون لعضوية مجلسي الشورى والنواب، ولكن المجلسان وضعا شروطا للإنضمام إليهما لا يقدر عليها سوى كبار الملاك الزراعيين والصناعيين، أو صفوة المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، ويكفي أن نعلم مثلاً أن النائب كان عليه تسديد مبلغ 150 جنيها ضريبة سنويا، في حين كانت ضريبة الفدان الزراعي 50 قرشا فقط، وهذا يعني أن النائب كان يمتلك ما يفوق 300 فدان ليلتحق بمجلس الشيوخ، وكذا الحال مع مجلس النواب.
وننتقل لعام 1933 لنرى قانونا تقدم به بعض النواب لرفع ميزانية التعليم الإلزامي لأولاد الفلاحين، ولكنه توقف، وكان من بين المعترضين توفيق دوز و عزيز أباظة النائب في المجلس والمعروف بملكياته الزراعية الكبيرة، وقال حينها: الفلاحون يجب تعليمهم الزراعة فقط، لأن تعليمهم القراءة والكتابة سيغير من طبيعتهم الخشنة، ووافقهم عدد كبير من النواب، بل أيضا كانوا يمتنعون عن إصدار قانون بنقابة للعاملين ، واكتفوا بتكوين مكتب لشئون العمال في كل مصنع على حدا ! وظلت الحياة البرلمانية على هذا الحال منذ 1924 وحتى 1950 ، أي قبيل ثورة يوليو بفترة قصيرة ، فقد ظل نواب الشعب هم أكبر الملاك، ولم يكن للطبقة الوسطى من كتاب أو موظفين بمناصب عامة أو غيرهم أي وجود ، على الرغم من ظهور عديد من القوى السياسية على الساحة المصرية منهم الشيوعيون والإخوان المسلمون ، لكنهم لم يتمكنوا من دخول البرلمان. اعتدلت الأوضاع السابقة مع قدوم ثورة يوليو 1952 التي وضعت دستورها عام 1956 وتم إبطال دستور 1923 الذي يقول بنظام الدولة الملكية الوراثية ، وأصبح مجلس الأمة يمثل طوائف الشعب، فقد اشترط أن يكون 50% منه عمال وفلاحون على اعتبار أنهم أصل المهن المصرية ، و50% من أصحاب الأعمال الأخرى كالموظفين والكتاب والقضاة والعسكريين وغيرهم ومعظمهم من الطبقة الوسطى . يتابع المؤرخ حديثه : حاليا لا نجد هذا التقسيم حقيقيا، فمن يدخل الإنتخابات باعتباره فلاحا ، نجده صاحب أراضٍ لا حصر وربما صاحب صناعات أو له رتبة كبيرة بالجيش بجوار ذلك، وبالتالي فهو ليس الفلاح البسيط المتعارف عليه، والقول ينطبق على من يدخل على انه من فئة العمال ، وهو لا يشعر بهم ولا منهم . لما انتهت الثورة وجاء عهد الرئيس أنور السادات لوحظ زيادة كبيرة في دخول رجال الأعمال لمجلس الشعب لكسب الحصانة وتكوين شبكة علاقات تسهل مصالحهم وأعمالهم في الخارج، فبدأ الصراع يشتد على كرسي البرلمان ، وخاصة في ظل نظام رأسمالي يتيح الثراء بلا مقابل من العمل الحقيقي . ومن هنا يمكن القول أن البرلمان المصري بعد عهد الثورة عاد لما كان عليه قبلها، لا يمثل سوى أصحابه.
من جهته قال الكاتب الروائي المصري عزت القمحاوي أن المصريين يعرفون أن البرلمان لا يمثلهم منذ فترة طويلة وأن انتخاباته مليئة بالتزوير، لكن كانت هناك بقية من حكمة لدى النظام السياسي تسمح بوجود أقلية معارضة تحت القبة، أما ما شهدته انتخابات 2010 الأخيرة فهو عملية "تغول" غير مسبوقة من جانب النظام . خطورة ذلك برأي الكاتب في أنه نقل العلاقة بين الشعب وبرلمانه من تدهور الشرعية إلى إنهيارها بالكامل، والمأزق أيضا أن نتيجة الإنتخابات تجعل مصر متنكرة لنظام التعددية الحزبية ، أي أصبحت دولة حزب واحد ، فلا أحد يمكنه تصديق أن المعارضة سواء إخوانية او حزبية ليس لها أي شعبية في الشارع المصري تجعلها تفوز بمقاعد برلمانية . وبسؤاله حول فكرة مقاطعة الإنتخابات من جانب الشعب أو أحزابه، في غياب معايير تضمن النزاهة، وهو اقتراح حث عليه الدكتور محمد البرادعي رئيس الجمعية الوطنية للتغيير، قال الكاتب عزت القمحاوي أنها فكرة لا تحقق مكاسب؛ إذ أن مشاركة الأحزاب هي التي عرت التزوير الحقيقي أمام العالم والذي صورته أيضا بالوثائق منظمات الرقابة على الإنتخابات، ولو لم يكن هؤلاء المشرحين قد شاركوا لاتهموا بالمبالغة في التشاؤم والإستناد للنوايا وليس الواقع من جانب رجال الحزب الوطني وكان موقفهم سيكون ضعيفا.
كما أن المعارضة حققت شعبية كبيرة بعدما تعرضت له من إقصاء عن مجلس الشعب ،وبدأت فيها بوادر حيوية داخلية منها ما يجري بحزبي "التجمع" و"الوفد" وغيرهما. وحول بروز فكرة قمع المصريين برواياته ، قال الأديب أنه في روايته "مدينة اللذة" صور مدينة ضاغطة تقمع سكانها ، وفي روايته "غرفة ترى النيل" صور الأيام الأخيرة من احتضار كاتب شاهد على الفساد السياسي، أما في روايته "الحارس" فالبطل حارس رئيس البلاد وتعجبه لعبة السلطة والإحتماء بها، فيصير سجينا لمنظومة الحراسة وينسى حياته الخاصة تماما ، وهنا يعبر عن أشخاص واقعيين يستخدمون لقمع الآخرين ثم ما يلبثوا أن يصبحوا سجناء لهذا الدور وضحايا له ! مجلس كبار الملاك
أما المحلل السياسي والأديب د. عمار علي حسن ، فكان قد أعلن في مقاله المنشور بصحيفة مصرية أن الحزب الوطني خاسر أيضا في الإنتخابات الأخيرة، وأهم ما خسره هو الشرعية والمصداقية، وسألناه عن مدى اهتمام الحزب الحاكم بهذه الخسارة، فقال: يعلم الحزب الوطني أن شعبيته تآكلت ويراهن على شعب ينتظر دائما حدوث انفراجة، وضعف المعارضة المنهكة والتوحش الأمني، وجهاز الأمن عموما يلقى مخصصات هائلة في الربع الأخير من القرن العشرين ، ويعتمد عليه كذراع لمساندة النظام في مواجهة أي حركة احتجاج . ولكن – يتابع عمار – تجارب الأمم تثبت أن جهاز الأمن وحده لا يحيي نظاما سياسيا إلى الأبد، وخاصة أنه نظام يبحث عن شرعية تمكنه من الإستمرار بعد الإنتخابات الرئاسية العام المقبل، وبالتالي رئيس الدولة إذا ما كان مرشحا لفترة رئاسية قادمة يهمه أن يحظى بشرعية وكذلك الحزب الوطني، كما أن هناك أجهزة سيادية بالدولة مهمتها الحفاظ على أمن الوطن وسلامته ، ويعنيها أن تتساءل إذا كان الإنتخابات تحقق نظاما مستقرا أم لا ، منها جهاز المخابرات أو المؤسسة العسكرية ، ولهذا فالأنظمة تذهب لكن الدولة باقية بمؤسساتها . سألناه حول انتشار فكرة حكومة الظل وبرلمان الظل في الآونة الأخيرة، والتي تعني في الحالة الثانية برلمانا يشكل من المرشحين الحقيقيين من قبل الشعب بلا تزوير والذين يحظون بشعبية ومصداقية كبيرة من كل التيارات، وهم الذين يناقشون قضايا الوطن بشفافية، فقال الباحث أنها إحدى وسائل المقاومة الشعبية وتظل تعبيرا رمزيا عن الإحتجاج ، فحتى لو لم يكن هذا المجلس له صلاحيات يكفي أنه يعبر عن إرادة الناس الحقيقية ، خاصة أن المصريين يعلمون أن برلمان 2010 الذي يجمع الباحثين عن الحصانة والمنافع وكبار الملاك ، لن يمارس دوره في محاسبة ومساءلة الوزراء والمسئولين والرقابة عليهم ، وسيكون أشبه بغرفة إدارة علاقات عامة وممر لسريان القوانين التي تقترحها الحكومة . المصدر: محيط |
تعليقات
إرسال تعليق