طالعتنا أنباء صادمة بأن هناك جهاتٍ تضغط من أجل العفو عن الرئيس المخلوع وأسرته مقابل التنازل عن حفنة الملايين التي عجزوا عن تهريبها إلى الخارج مثلما هرَّبوا المليارات من قبل، وتذكرنا على الفور رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما حاول أسامة بن زيد أن يشفع للمرأة المخزومية التي سرقت حتى لا يُقام عليها الحد، تذكرناه وصوته يجلجل في آذان الناس والزمان والكون "إنما أهلك مَن كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمةَ بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها"، وتذكرنا قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) (البقرة)، فالاستثناء في حكم القانون إنما هو نذيرٌ بالهلاك، وتشجيعٌ على العدوان على الحياة ودعوة صريحة للفوضى.
ولماذا يقتصر هذا العفو على هذه الأسرة التي أجرمت في حق الله والوطن والشعب؟، لماذا لا يشمل وزير الداخلية الأسبق ورجاله وبقية المسئولين والوزراء ورجال الأعمال وزعماء موقعة الجمل؟!.
لماذا هذا الحنان وهذه الرأفة والله تعالى يقول في حق مرتكب جريمة واحدة (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: من الآية 2) فما بالكم بمَن اقترف ملايين الجرائم؟ ثم أين الرأفة والرحمة بالضحايا والمعذبين والمجني عليهم؟
ولماذا لا يتم الإفراج عن كل المجرمين في السجون مهما كانت جرائمهم؟ إذا كانت هناك نية للإفراج عن عتاةِ المجرمين: الرئيس وأسرته وأعوانه؟ ألا يكون عدم الإفراج عن المجرمين الصغار ظلمًا وتمييزًا بسبب المنصب؟ ألم تنص المادة (7) من الإعلان الدستوري على أن "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة"؟، ألم تنص المادة (25) من الإعلان الدستوري على أن "رئيس الدولة هو رئيس الجمهورية ويسهر على تأكيد سيادة الشعب وعلى احترام الدستور وسيادة القانون..."؟ ألا يهدر العفو عن هؤلاء المجرمين سيادة الشعب وسيادة القانون ويُكرِّس عدم احترام الدستور؟!.
إن المسألة ليست في نهب ثروات مصر فقط وتهريبها للخارج من هذه الأسرة وأعوانها، ولا في الاستيلاء على أراضيها وتوزيعها على الأتباع والأذناب فقط، ولا في إفقار الشعب وإذلاله فقط، ولا في تخريب الاقتصاد القومي وانهياره وتراكم الديون الخارجية والداخلية عليه فقط ولا في بطالة الشباب والشابات وعجزهم عن الزواج فحسب ولا في انتشار الأمراض الخطيرة كالسرطان والفشل الكلوي وإهمال مرافق الصحة فقط، ولا في انهيار التعليم العام والجامعي والبحث العلمي فقط، وإنما أيضًا في تحويل مصر إلى دولة بوليسية تنشر الرعب والإرهاب بين الناس، وفي اعتقال مئات الآلاف دون محاكمة، وفي التعذيب الوحشي لعشرات الآلاف، وقتل الناس تحت التعذيب أو بأحكام استثنائية جائرة، وفي إفساد الحياة السياسية بتزوير الانتخابات واغتصاب السلطة والعبث بالدستور من أجل التوريث وتقنين الظلم والفساد، بل تحويل مصر إلى سلخانة تعذيب لحساب أمريكا.
ليس ذلك كله فحسب، ولكن كذلك التفريط في الأمن القومي بالتفريط في علاقة مصر بدول منابع النيل؛ الأمر الذي يؤثر على حصتنا في مياه النهر التي هي حياة المصريين، والتحالف الإستراتيجي مع الصهاينة حتى اعتبروا ذلك الرئيس المخلوع كنزًا إستراتيجيًّا، وحصار إخواننا الفلسطينيين في غزة إلى حدِّ الخنق، والتنكر للقضايا القومية العربية، والتفريط في المقدسات الإسلامية والمسيحية، ورهن مصر للسياسة الأمريكية.
وأخيرًا وليس آخرًا قتل الثوار في الشوارع والميادين أثناء ثورة 25 يناير، الذين قارب عددهم الألف، إضافةً إلى آلاف الجرحى والمصابين بالعاهات المستديمة، بأمر ذلك الطاغية المخلوع، وكذلك أمره للجيش بتسوية ميدان التحرير بالأرض أي قتل مئات الآلاف لولا أن الجيشَ رفض تنفيذ الأمر.
ومن المؤسف حقًّا أن نعلم أن نيةَ العفو عن هؤلاء المجرمين ناشئة عن ضغوط خارجية وهو أمرٌ يأباه الشعب المصري كله وتأباه سيادتهم وكرامتهم وثورتهم، ولا يمكن أن نقبل استبدال وصاية خارجية بوصاية أمريكية، وليست مصر هي التي تسمح لهؤلاء بالتدخل في شئونها الداخلية أو ترهن إرادتها بمساعدات مالية أو اقتصادية من أي نوع، ثم أين كان هؤلاء الشفعاء وهو يقترف في حقِّ شعبه كل هذه الجرائم؟!.
ويلعب البعض على وتر العواطف بأن الرجل وزوجته مسنان ومريضان، إضافةً إلى أنه كان قائد الضربة الجوية الأولى، ونحن نسأل هل الضربة الجوية الأولى تخوله أن يفعل بوطنه وشعبه وأمته ما فعل؟ ثم إن الضربة الجوية كانت جزءًا من خطة وضعها المشير الجمسي، وقام على تنفيذها الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان، ونفَّذ الجزء الخاص بالطيران الرئيس المخلوع، فمَن صاحب الفضل الأكبر؟ وماذا فعل في الفريق الشاذلي؟ ألم يلقه في السجن وكان قد بلغ من الكبر عتيًّا لأسبابٍ تافهة؟ ولم يقبل فيه شفاعة لأحد؟ ألم ينزع عنه كل الأنواط والنياشين التي حصل عليها طيلة حياته العسكرية، ثم ألم يسجن رجالاً مسنين مرضى بغير محاكمة حتى أُصيبوا بجلطة في المخ وشللٍ نصفي، وكانوا من أبطال حرب فلسطين سنة 1948م؟
إن هذه الدعوة السيئة إلى العفو إنما تقول لحكام العرب صراحةً، افعلوا بشعوبكم وبلادكم ما تشاءون، فقصارى ما تقدمونه إذا ثارت عليكم شعوبكم اعتذارًا مذاعًا لا يكلفكم شيئًا.
إن ما يحدث إنما هو استخفافٌ بمشاعر الشعب المصري الجريحة واستهانة بثورته وبدماء شهدائه ودمائهم.
إن أحدًا أيًّا كان لا يملك العفو إلا أولياء الدم في حالة القتل، وهذا ما تقضى به الشريعة الإسلامية، أما بقية الجرائم فمتى وصلت إلى القضاء فلا يملك أحدٌ العفو عنها، والحديث الذي صدَّرنا به هذا البيان خير دليل على ذلك.
إن الإخوان المسلمين وهم يسعون إلى استقرار الأوضاع وتحقيق السلام الاجتماعي وإدارة عجلة الإنتاج والحفاظ على سيادة الشعب واحترام إرادته ومشاعره ليحذرون من التصرفات التي تستفز مشاعره وتثير غضبه وثورته.
(إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)) (النساء).
الإخوان المسلمون
القاهرة في: 15 من جمادى الآخرة 1432هـ الموافق 18 من مايو 2011م
تعليقات
إرسال تعليق